الكواكب
اللماعة
في
تحقيق المسمى
بأهل
السنة والجماعة
تأليف
الأستاذ أبو الفضل ابن الشيخ عبد الشكور
السنوري باعيلان
مقدمة الكاتب
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نحمدُك
يا من أنزل القرآنَ تذكرةً للمؤمنين، ونصلّى ونسلّم على من قال: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي
وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْن"، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما
بعدُ، فقد أرسل إليّ الأستاذُ اللّوذعي أبو الفضل بنُ الشيخ عبدِ الشكور السنوري
الباعيلاني نسخةَ "الكواكب اللماعة في تحقيق المسمى بأهل السنة
والجماعة"، فرأيتُها موافقة للصواب، وزادا قيما لذوى الألباب، فقدّمتها إلى
مؤتمر نهضة العلماء الثالث والعشرين بسالا جاوى الوسطى، فاستحسن المؤتمرون تلك
النسخة، وقابلوها بالشكر والمحمدة، فقرّروا لها بإقامة لجنة التصحيح،فعُقِد مجلسها
في دينايار جومباع في آخر سنة ألف وثلمائة وثلاث وثمانين من هجرة سيد المرسلين،
الموافق لأواسط مايو سنة أربع وستين في القرن التاسع عشر من ميلاد ابن مريم الأبر،
حضره وُجَهاءُ النهضة، منهم: الشيخ بصري شنسوري، والأستاذ عدلان علي، والشيخ خليل،
والشيخ منصور أنوار - وهم من أكابر علماء النهضة بجومباع -، والأستاذ تُرَيحان
أجهوري قدس، والشيخ عبد المجيد من فليمباع سومطرة، والأستاذ رادين محمد الكريم
سالا، والشيخ محمد الباقر مرزوقي جاكرتا، والفقير عبد الجليل حميد قدس – وهما
كاتبا الإدارة العالية للنهضة -، وغيرهم من من العلماء الكرام
والجهابذة الفخام. وعلى قرار ذلك المجلس أنظِم هذه النسخة الأخيرة، ثم عرضتها
لجناب المؤلف، فكانت مصححة تليق أن يعتمدها المسترشدون لدفع شُبه أهل الفسق الذين
بأهل السنة والجماعة يدّعون، وكل حزب بما ليهم فرحون، وكل يدعى وصلاً بِلَيْلَى،
وليلَى لن تقِرّ به عيونا. هذا، فنسأل الله أن ينفعها النفع العميم، ويجعلها وسيلة
لنيل رضاه في جنات النعيم.
الكاتب:
أبو حمدان عبد الجليل حميد قدس
الكاتب الثانى للإدارة العالية
لحزب نهضة العلماء
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للهِ الَّذِيْ جَعَلَنَا مِنْ
أَهْلِ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ.
وَوَفَّقَنَا لاِتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُلاَزَمَةِ الجَمَاعَةِ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَه. شَهَادَةً هِيَ أَفْضَلُ زَادٍ
وَخَيْرُ بِضَاعَة. وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ
الَّذِيْ أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْنَا اِتِّبَاعَهُ. وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى
سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ المَخْصُوْصِ بِأَعْظَمِ شَفَاعَةٍ. صَلاَةً وَسَلاَمًا يَعُمَّانِ
آلَهُ وَأَصْحَابَهُ وَأَشْيَاعَهُ وَأَتْبَاعَهُ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَقُوْلُ الفَقِيْرُ إِلَى
عَفْوِ رَبِّهِ الغَفُوْرِ أَحْمَدُ أَبُوْ الفَضْلِ بْنُ عَبْدِ الشَّكُوْرِ المُقِيْمُ
بِسَنُوْرِي خَلَّصَهُ اللهُ مِنْ كُلِّ مُلِمٍّ دَيْجُوْرِيٍّ.
قَدْ افْتَرَقَ المُسْلِمُوْنَ اليَوْمَ وَتَحَزَّبُوُا وَتَجَمَّعُوْا وَتَعَصَّبُوْا،
وَكُلُّ فِرْقَةٍ تَدَّعِىْ أَنَّهَا عَلَى السُّنَّةِ وَأَنَّ غَيْرَهَا عَلَى
البِدْعَةِ، وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُوْنَ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ بِرَأْيِهِمْ
مُتَبَجِّحُوْنَ،
وَالنَّاسُ إِلَيْهِمْ يَسْتَمِيْلُوْنَ، حَتَّى التَبَسَتْ عَلَى كَثِيْرٍ مِنَ
النَّاسِ، وَكُثَر بَيْنَهُمْ التَّسَاؤُلُ عَنْ حَقِيْقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَالجَمَاعَةِ، وَعَمَّنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يٌوْسَمَ بِهَذَا الوَسْمِ، فَحَمَلَنِيْ
النَّظَرُ إِلَى الأٌمَّةِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ، عَلَى بَيَانِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ
المُهِمَّةِ، وَكَشْفِ هَذِهِ الوَاقِعَةِ المُلِمَّةِ، إنْقَاذًا لَهُمْ مِنْ عَوَاصِفِ
الشُّبَهِ
وَظُلُمَاتِ البِدَعِ المُدْلَهِمَّةِ،
فَصَنَّفْتُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ، وَسَمَّيْتُهَا بِالكَوَاكِبِ اللَّمَّاعَةِ فِيْ
حَقِيْقَةِ المُسَمَّى بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.
وَاللهَ أَسْأَلُ التَّوْفِيْقَ وَالإِعَانَةَ
وَالهِدَايَةَ وَحُسْنَ الإِبَانَةِ. هَذَا أَوَانُ الشُّرُوْعِ فِيْ المَقْصُوْدِ
بِعَوْنِ المَلِكِ المَعْبٌوْدِ.
مُقَدِّمَةٌ
اِعْلَمْ أَنَّ المُسْلِمِيْنَ فِيْ عَهْدِ
رَسُوْلِ اللهِ r أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَخْتَلِفُوْا فِيْ عَقَائِدِهِمْ وَلاَ فِيْ
أَعْمَالِهِمْ اِخْتِلاَفًا يُؤَدِّىْ إِلَى التَّفَرُّقِ وَالتَّحَزُّبِ وَالتَّعَصُّبِ
كَمَا مَدَحُهُمُ اللهُ بِذَلِكَ فِيْ كِتَابِهِ الكَرِيْمِ.
ثُمَّ
لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُوْلُ اللهِ r صَارَ أَبُوْ بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَلِيْفَةً لَهُ.
ثُمَّ تَوَلَّى بَعْدَهُ بِاسْتِخْلاَفٍ مِنْهُ
عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلَمْ يَظْهَرْ فِيْهِمْ خِلاَفٌ إِلاَّ
مَا قَلَّ مِمَّنْ لَمْ يُعْتَبَرْ بِخِلاَفِهِ.
فَلَمَّا صَارَتْ الخِلاَفَةُ إِلَى عُثْمَانَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ظَهَرَ الإِخْتِلاَفُ ظُهُوْرًا مَّا.
ثُمَّ لَمَّا صَارَتْ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ
اللهُ وَجْهَهُ اِشْتَدَّ ظُهُوْرًا، فَحِيْنَئِذِ تَفَرَّقَ النَّاسُ، وَاخْتَلَفَ
آرَاؤُهُمْ، وَتَشَعَّبَتْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْ طَاعَتِهِ، وَنَصَبُوْا
لَهُ رَايَةَ الخِلاَفِ، وَنَاجَزُوْهُ بِالقِتَالِ، فَسُمِّيَ هَؤُلاَءِ بِالخَوَارِجِ.
وَيَبْقَى هَذَا الإِسْمُ لِمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ وَرَأَىْ رَأْيَهُمْ.
وَأَفْرَطَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى فِيْ حُبِّهِ،
وَاشْتَدَّ تَعَصُّبُهُمْ لَهُ وَتَغَالَوْا فِيْ ذَلِك، فَسُمِّيَ هَؤُلاَءِ بِالشِّيْعَةِ.
وَيَبْقَى هَذَا الإِسْمُ لِمَنْ كَاَن عَلَى مَذْهَبِهِمْ إِلَى اليَوْمِ.
وَافْتَرَقَتْ كٌلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ
إِلَى فِرَقٍ أُخْرَى.
وَكُلٌّ مِنْ تِلْكَ الفِرَقِ يَدْعُو النَّاسَ
إِلَى رَأْيِهِ وَمَذْهَبِهِ. ثُمَّ لَمْ تَزَلْ فِرْقَةٌ تَظْهَرُ إِثْرَ أُخْرَى
حَتَّى يَفْتَرِقَ النَّاسُ إِلَى فِرَقٍ كَثِيْرَةٍ، وَكُلٌّ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَلَى
الحَقِّ. فَلَمْ يَزَالُوْا يَزْدَادُوْنَ اِخْتِلاَفًا حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ
مِنْ قَرْنِ التَّابِعِيْنَ إِلاَّ القَلِيْلُ ظَهَرَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى سَمُّوْا
أَنْفُسَهُمْ بِأَهْلِ العَدْل وَالتَّوْحِيْدِ، وَهُمْ المُعْتَزِلَةُ.
وَحِيْنَئِذٍ حَدَثَ اِسْمُ "أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ" لِلَّذِيْنَ لاَزَمُوْا سُنَّةَ النَّبِيِّ r وَطَرِيْقَةَ الصَّحَابَةِ فِيْ العَقَائِدِ الدِّيْنِيَّةِ وَالأَعْمَالِ
البَدَنِيَّةِ وَالأَخْلاَقِ القَلْبِيَّةِ.
فَمَنْ اشْتَغَلَ مِنْهُمْ بِإِقَامَةِ الحُجَجِ
وَالدَّلاَئِلِ العَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ لِلْأُمُوْرِ الإِعْتِقَادِيَّةِ سُمِّيَ
بِالمُتَكَلِّمِيْنَ أَوْ أَهْلِ الكَلاَمِ،
وَمَنْ اشْتَغَلَ مِنْهُمْ بِعِلْمِ العِبَادَاتِ
البَدَنِيَّةِ وَالمُعَامَلاَتِ وَالمُنَاكَحَاتِ وَالفَتَاوَى فِيْ الأَقْضِيَةِ
وَالحُكُوْمَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سُمِّيَ بِالفُقَهَاِء أَوْ أَهْلِ الفِقْهِ،
وَمَنْ اشْتَغَلَ مِنْهُمْ بِجَمْعِ الأَحَادِيْثِ
النَّبَوِيَّةِ وَتَمْيِيْزِ صَحِيْحِهَا مِنْ غَيْرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سُمِّيَ بِالمُحَدِّثِيْنَ
أَوْ أَهْلِ الحَدِيْثِ،
وَمَنْ اشْتَغَلَ مِنْهُمْ بالأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ
وَتَصْفِيَةِ القُلُوْبِ عَنِ الأَخْلاَقِ المَذْمُوْمَةِ وَتَحْلِيَتِهَا بِمَكَارِمِهَا
سُمِّيَ بِالصُّوْفِيَةِ أَوْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ.
قَالَ ابْنُ خَلْدُوْنَ فِيْ مُقَدِّمَتِهِ:
إنَّ الفِقْهَ المُسْتَنْبَطَ مِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ
كَثُرَ فِيْهِ الخِلاَفُ بَيْنَ المُجْتَهِدِيْنَ بِاخْتِلاَفِ مَدَارِكِهِمْ وَأَنْظَارِهِمْ
خلاَفًا لاَ بُدَّ مِنْ وُقُوْعِهِ. وَاتَّسَعَ فِيْ المِلَّةِ اِتِّسَاعًا عَظِيْمًا،
وَكَانَ لِلْمُقَلِّدِيْنَ أَنْ يُقَلِّدُوْا مَنْ شَاءُوْا، ثُمَّ لَمَّا انْتَهَى
الأَمْرُ إِلَى الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَكَانُوْا بِمَكَانٍ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ
اقْتَصَرَ النَّاسُ عَلَى تَقْلِيْدِهِمْ، فَأُقِيْمَتْ هَذِهِ المَذَاهِبُ الأَرْبَعَةُ
أُصُوْلاً لِلْمِلَّةْ.
وَمَعْلُوْمٌ أَنَّ لِهَؤُلاَءِ
الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ حَظًّا أَوْفَرَ فِيْ الأُمُوْرِ الإِعْتِقَادِيَّةِ وَالأَحَادِيْثِ
النَّبَوِيَّةِ وَالأَعْمَالِ القَلْبِيَّةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ
سِيَرهُمْ. وَإِنَّمَا كَانَ أَعْظَمُ اشْتِغَالِهِمْ بِعِلْمِ الفِقْهِ لأَنَّهُ
كَانَ هُوَ الأَهَمَّ فِيْ زَمَانِهِمْ.
وَأَمَّا البِدَعُ وَالأَهْوَاءُ
فِيْ الأُمُوْرِ الإِعْتِقَادِيَّةِ وَالأَدْوَاءِ القَلْبِيَّةِ وَإِنْ وُجِدَتْ
فِيْ زَمَانِهِمْ لَكِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فِيْ الأَقْطَارِ شَرَرُهَا، وَلَمْ يَعْظُمْ
فِيْ الخَلْقِ شَرُّهَا.
وَبَعْدَ هَؤُلاَءِ الأَئِمَّةِ
الأَرْبَعَةِ ازْدَادَتْ البِدَعُ وَالأَهْوَاءُ قُوَّةً وَانْتِشَارًا، وَتَطَايَرَتْ
فِيْ أَقْطَارِ الأَرْضِ شِرَارًا، فَحِيْنَئِذٍ قَامَتْ أَئِمَّةُ الدِّيْنِ مِنْ
أَهْلِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ لِلذَّبِّ وَالنِّضَالِ عَمَّا كَانُوْا عَلَيْهِ
مِنَ العَقَائِدِ الَّتِى عَلَيْهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ حَتَّى انْتَهَى الأَمْرُ
إِلَى الإِمَامَيْنِ أَبِي الحَسَنْ الأَشْعَرِيِّ وَأَبِي مَنْصُوْرٍ المَاتُرِيْدِيِّ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، فَقَامَا أَحْسَنَ قِيَامٍ لِلذَّبِّ وَالنِّضَالِ عَمَّا
كَانُوْا عَلَيْهِ مِنْ سِيْرَةِ النَّبِيِّ
r وَطَرِيْقَةِ أَصْحَابِهِ.
فَالأَوَّلُ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالثَّانِيْ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ أَبِيْ حَنِيْفَةَ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِيْ. وَنَالاَ بِذَلِكَ مَكَانًا مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ
عِنْدَ النَّاسِ فَاكْتَفَوْا بِمَذْهَبَيْهِمَا وَصَارُوْا طَائِفَتَيْنِ، أَشَاعِرَةً
وَمَاتُرِيْدِيَّةً، وَاخْتَصَّتَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ المُسْلِمِيْنَ فِيْ عُرْفِ أَهْلِ العِلْمِ بِاسْمِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
تَمْيِيْزًا لَهُمَا مِنَ المُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ البِدَعِ
وَالأَهْوَاءِ.
وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ
الحَدِيْثِ وَأَهْلُ التَّصَوُّفِ لَمْ يُخَالِفُوْا الأَشَاعِرَةَ وَلاَ المَاتُرِيْدِيَّةَ
دَخَلُوْا أَيْضًا تَحْتَ هَذَا الإِسْمِ، أَعْنِيْ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
كَمَا سَيَأْتِيْ.
(فَصْلٌ) قَالَ الرَّمْلِي
فِيْ شَرْحِ المِنْهَاجِ: وَالمُبْتَدِعُ مَنْ
خَالَفَ فِي الْعَقَائِدِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ
النَّبِيُّ r وَأَصْحَابُهُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْمُرَادُ
بِهِمْ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ إمَامَاهَا أَبُو الْحَسَنِ
الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَأَتْبَاعَهُمَا اهـ.
وقال مُرْتَضَى الزَّبِيْدِيُّ فِيْ الفَصْلِ
الثَّانِي مِنْ مُقَدِّمَةِ شَرْحِ كِتَابِ قَوَاعِدِ العَقَائِدِ مِنَ الإِحْيَاءِ:
إِذَا أُطْلِقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ فَالمُرَادُ بِهِمْ الأَشَاعِرَةُ
وَالمَاتُرِيْدِيَّةُ. قَالَ الخَيَالِيُّ فِيْ حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ العَقَائِدِ:
الاَشَاِعَرُة هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ. هَذَا هُوَ المَشْهُوْرُ فِيْ
دِيَارِ خُرَاسَانَ وَالعِرَاقِ وَالشَّامِ وَأَكْثَرِ الأَقْطَارِ. وَفِيْ دِيَارِ
مَا وَرَاءَ النَّهْرِ يٌطْلَقُ ذَلِكَ عَلَي المَاتُرِيْدِيَّةِ أَصْحَابِ الإِمَامِ
أَبِيْ مَنْصُوْرٍ اهـ.
وَقَالَ الكُسْتُلِيُّ فِيْ حَاشِيَتِهِ عَلَيْهِ:
المَشْهُوْرُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيْ دِيَارِ خُرَاسَانَ وَالعِرَاقِ وَالشَّامِ
وَأَكْثَرِ الأَقْطَارِ هُمْ الأَشَاعِرَةُ أَصْحَابُ أَبِيْ الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ،
أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ أَبَا عَلِيٍّ الجُبَّائِيَّ وَرَجَعَ عَنْ مَذْهَبِهِ إِلَى
السُّنَّةِ أَيْ طَرِيْقِ النَّبِيِّ r وَالجَمَاعَةِ أَيْ طَرِيْقَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
وَفِيْ دِيَارِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ المَاتُرِيْدِيَّةُ أَصْحَابُ أَبِي مَنْصُوْرٍ
المَاتُرِيْدِيِّ. وَبَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ اخْتِلاَفٌ فِيْ بَعْضِ الأُصُوْلِ كَمَسْأَلَةِ
التَكْوِيْنِ وَمَسْأَلَةِ الإِسْتِثْنَاءِ وَمَسْأَلَةِ إِيْمَانِ المُقَلِّدِ. وَالمُحَقِّقُوْنَ
مِنَ الفَرِيْقَيْنِ لاَ يَنْسِبُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ إِلَى البِدْعَةِ وَالضَّلاَلَةِ
اهـ.
وَقَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ
فِيْ شَرْحِ عَقِيْدَةِ ابْنِ الحَاجِبِ: إِعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
كُلَّهُمْ قَدْ اتَّفَقُوْا عَلَى مُعْتَقَدٍ وَاحِدٍ فِيْمَا يَجِبُ وَيَجُوْزُ وَيَسْتَحِيْلُ
وَإِنِ اخْتَلَفُوْا فِيْ الطُّرُقِ وَالمَبَادِى
المُوْصِلَةِ لِذَلِكَ أَوْ فِيْ لَمِّيَّةِ مَا هُنَاكَ.
وَبِالجُمْلَةِ فَهُمْ بِالإِسْتِقْرَاءِ ثَلاَثُ
طَوَائِفَ؛
الأُوْلَى:
أَهْلُ الحَدِيْثِ، وَمُعْتَمَدُ مَبَادِيْهِمْ الأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ، أَعْنِي
الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالإِجْمَاعَ؛
الثَّانِيَةُ: أَهْلُ النَّظَرِ العَقْلِيِّ
وَالصِّنَاعَةِ الفِكْرِيَّةِ، وَهُمْ الأَشْعَرِيَّةُ وَالحَنَفِيَّةُ. وَشَيْخُ
الأَشْعَرِيَّةِ أَبُوْ الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ، وَشَيْخُ الحَنَفِيَّةِ أَبُوْ مَنْصُوْرٍ
المَاتُرِيْدِيُّ، وَهُمْ مُتَّفِقُوْنَ فِيْ المَبَادِئِ العَقْلِيَّةِ فِيْ كُلِّ
مَطْلَبٍ يَتَوَقَّفُ السَّمْعُ عَلَيْهِ، وَفِي المَبَادِئِ السَّمْعِيَّةِ فِيْمَا
يُدْرِكُ العَقْلُ جَوَازَهُ فَقَطْ؛ وَالعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ فِيْ غَيْرِهِمَا،
وَاتَّفَقُوْا فِيْ جَمِيْعِ المَطَالِبِ الإِعْتِقَادِيَّةِ إِلاَّ فِيْ مَسْأَلَةِ
التَّكْوِيْنِ وَمَسْأَلَةِ التَّقْلِيْدِ؛
الثَّالِثَةُ: أَهْلُ الوُجْدَانِ وَالْكَشْفِ،
وَهُمْ الصُّوْفِيَّةُ، وَمَبَادِيْهِمْ مَبَادِئُ أَهْلِ النَّظَرِ وَالحَدِيْثِ
فِيْ البِدَايَةِ وَالكَشْفِ وَالإِلْهَامِ فِيْ النِّهَايَةِ اهـ.
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ كُلاًّ مِنَ
الإِمَامَيْنِ أَبِيْ الحَسَنِ وَأَبِي مَنْصُوْرٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَجَزَاهُمَا عَنِ الإِسْلاَمِ خَيْرًا لَمْ يُبْدِعَا مِنْ
عِنْدِهِمَا رَأْيًا وَلَمْ يَشْتَقَّا مَذْهَبَا، إِنَّمَا هُمَا مُقَرِّرَانِ لِمَذْهَبِ
السَّلَفِ مُنَاضِلاَنِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُوْلِ اللهِ r، فَأَحَدُهُمَا قَامَ بِنُصْرَةِ نُصُوْصِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ؛ وَالثَّانِي قَامَ بِنُصْرَةِ نُصُوْصِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيْفَةَ
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ.
وَنَاظَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَوِىْ البِدَعِ
وَالضَّلاَلاَتِ حَتَّى انْقَطَعُوْا وَوَلَّوْا مُنْهَزِمِيْنَ. وَهَذَا فِيْ الحَقِيْقَةِ
هُوَ أَصْلُ الجِهَادِ الحَقِيْقِيِّ الَّذِيْ تَقَدَّمَتْ الإِشَارَةُ إِلَيْهِ،
فَالإِنْتِسَابُ إِلَيْهِمَا إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلاًّ مِنْهُمَا عَقَدَ
عَلَى طَرِيْقِ السَّلَفِ نِطَاقًا، وَتَمَسَّكَ وَأَقَامَ الحُجَجَ وَالبَرَاهِيْنَ
عَلَيْهِ، فَصَارَ المُقْتَدِى بِهِ فِيْ تِلْكَ المَسَالِكِ وَالدَّلاَئِلِ يُسَمَّى
أَشْعَرِيًّا أَوْ مَاتُرِيْدِيًّا.
وَذَكَرَ العِزُّ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ:
أَنَّ عَقِيْدَ الأَشْعَرِيِّ أَجْمَعَ عَلَيْهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالمَالِكِيَّةُ
وَالحَنَفِيَّةُ وَفُضَلاَءُ الحَنَابِلَةِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ
عَصْرِهِ شَيْخُ المَالِكِيَّةِ فِيْ زَمَانِهِ أَبُوْ عَمْرِو بْنُ الحَاجِبِ، وَشَيْخُ
الحَنَفِيَّةِ جَمَالُ الدِّيْنِ الحُصَيْرِيُّ وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقِيُّ
السُّبْكِيُّ فِيْمَا نَقَلَهُ عَنْهُ وَلَدُهُ التَّاجُ.
وَفِيْ كَلاَمِ عَبْدِ اللهِ المُيُوْرِقِيِّ
المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ مَا نَصُّهُ: أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ المَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَأَكْثَرِ الحَنَفِيَّةِ بِلِسَانِ أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ يُنَاضِلُوْنَ وَبِحُجَّتِهِ
يَحْتَجُّوْنَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ أَبُوْ الحَسَنِ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ بِلِسَانِ
أَهْلِ السُّنَّةِ، إِنَّمَا جَرَى عَلَى سَنَنِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى نُصْرَةِ مَذْهَبٍ
مَعْرُوْفٍ، فَزَادَ المَذْهَبَ حُجَّةً وَبَيَانًا، وَلَمْ يَبْتَدِعْ مَقَالَةً
اِخْتَرَعَهَا وَلاَ مَذْهَبًا اِنْفَرَدَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. أَلاَ تَرَى أَنَّ
مَذْهَبَ أَهْلِ المَدِيْنَةِ نُسِبَ إِلَى مَالِكٍ. وَمَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ
أَهْلِ المَدِيْنَةِ يُقَالُ لَهُ: مَالِكِيٌّ. وَمَالِكٌ إِنَّمَا جَرَى عَلَى سَنَنِ
مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَكَانَ كَثِيْرَ الإِتِّبَاعِ لَهُمْ إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا
زَادَ المَذْهَبَ بَيَانًا وَبَسْطًا عُزِيَ إِلَيْهِ. كَذَلِكَ أَبُوْ الحَسَنِ
الأَشْعَرِيُّ، لاَ فَرْقَ، لَيْسَ لَهُ فِيْ مَذْهَبِ السَّلَفِ أَكْثَرُ مِنْ بَسْطِهِ
وَشَرْحِهِ وَتَعَالِيْقِهِ فِيْ نُصْرَتِهِ، ثُمَّ عَدَّدَ خَلْقًا مِنْ أَئِمَّةِ
المَالِكِيَّةِ كَانُوْا يُنَاضِلُوْنَ عَنْ مَذْهَبِ الأَشْعَرِيِّ وَيُبَدِّعُوْنَ
مَنْ خَالَفَهُ اهـ.
قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ: المَالِكِيَّةُ
أَخَصُّ النَّاسِ بِالأَشْعَرِيِّ إِذْ لاَ نَحْفَظُ مَالِكِيًّا غَيْرَ أَشْعَرِيٍّ،
وَنَحْفَظُ مِنْ غَيْرِهِمْ طَوَائِفَ جَنَحُوْا إِمَّا إِلَى اعْتِزَالٍ أَوْ إِلَى
تَشْبِيْهٍ وَإِنْ كَانَ مَنْ جَنَحَ إِلَى هَذَيْنِ مِنْ رَعَاعِ الفِرَقِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِيْ التَّبْيِيْنِ:
أَبَا العَبَّاسِ الحَنَفِيَّ يُعْرَفُ بِقَاضِى العَسْكَرِ وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ
مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيْفَةَ وَمِنَ المُتَقَدِّمِيْنَ فِيْ عِلْمِ
الكَلاَمِ. وَحَكَى عَنْهُ جُمْلَةً مِنْ كَلاَمِهِ، فَمِنْ قَوْلِهِ: وَجَدْتُ لأَبِي
الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ كُتُبًا كَثِيْرَةً فِيْ هَذَا الفَنِّ، يَعْنِي أُصُوْلَ
الدِّيْنِ، وَهِيَ قَرِيْبَةٌ مِنْ مِائَتَيْ كِتَابٍ. والمُوْجَزُ الكَبِيْرُ يَأْتِي
عَلَى عَامَّةِ مَا فِيْ كُتُبِهِ. وَقَدْ صَنَّفَ الأَشْعَرِيُّ كِتَابًا كَثِيْرًا
لِتَصْحِيْحِ مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَهُمْ ثُمَّ
بَيَّنَ اللهُ ضَلاَلَتَهُمْ فَبَانَ عَمَّا اعْتَقَدَهُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، وَصَنَّفَ
كِتَابًا نَاقِضًا لِمَا صَنَّفَ لِلْمُعْتَزِلَةِ. وَقَدْ أَخَذَ عَامَّةُ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ أَبِي الحَسَنِ. وَصَنَّفَ أَصْحَابُ
الشَّافِعِيِّ كُتُبًا كَثِيْرَةً عَلَى وَفْقِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَشَعَرِيُّ
اهـ.
قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ
الإِمَامَ الوَالِدَ يَقُوْلُ: مَا تَضَمَّنَهُ عَقِيْدَةُ الطَّحَاوِيِّ هُوَ مَا
يَعْتَقِدُهُ الأَشْعَرِيُّ لاَ يُخَالِفُهُ إِلاَّ فِيْ ثَلاَثِ مَسَائِلَ اهـ. قٌلْتُ:
وَكَانَتْ وَفَاةُ الطَّحَاوِيِّ بِمِصْرَ سَنَةَ 331 فَهُوَ مُعَاصِرٌ لأَبِي الحَسَنِ
الأَشْعَرِيِّ وَأَبِيْ مَنْصُوْرٍ المَاتُرِيْدِيِّ اهـ. أَقُوْلُ: وَكَانَتْ وَفَاةُ
الأَشْعَرِيِّ سَنَةَ 314 وَوَفَاةُ المَاتُرِيْدِيُّ سَنَةَ 333 وَاللهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ: وَأَنَا
أَعْلَمُ أَنَّ المَالِكِيَّةَ كُلَّهُمْ أَشَاعِرَةٌ لاَ أَسْتَثْنِيْ أَحَدًا، وَالشَّافِعِيَّةَ
غَالِبُهُمْ أَشَاعِرَةٌ لاَ أَسْتَثْنِيْ إِلاَّ مَنْ لَحِقَ مِنْهُمْ بِتَجْسِيْمٍ
أَوْ اعْتِزَالٍ مِمَّنْ لاَ يَعْبَأُ اللهُ بِهِ، وَالحَنَفِيَّةَ أَكْثَرُهُمْ أَشَاعِرَةٌ
أَعْنِي يَعْتَقِدُوْنَ عَقِيْدَةَ الأَشْعَرِيِّ لاَ يَخْرُجُ مِنْهُمْ إِلاَّ مَنْ
لَحِقَ مِنْهُمْ بِالمُعْتَزِلَةِ، وَالحَنَابِلَةَ أَكْثَرُ فُضَلاَءِ مُتَقَدِّمِيْهِمْ
أَشَاعِرَةٌ لاَ يَخْرُجُ مِنْهُمْ إِلاَّ مَنْ لَحِقَ مِنْهُمْ بِأَهْلِ التَّجْسِيْمِ،
وَهُمْ فِيْ هَذِهِ الفِرْقَةِ مِنَ الحَنَابِلَةِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ.
(فَصْلٌ) إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ
اللَّفْظَ إِمَّا حَقِيْقَةٌ أَوْ مَجَازٌ، وَكِلاَهُمَا إِمَّا لُغَوِيٌّ أَوْ شَرْعِيٌّ
أَوْ عُرْفِيٌّ. وَالعُرْفُ إِمَّا خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ.
فَالحَقِيْقَةُ: لَفْظٌ يٌسْتَعْمَلُ فِيْمَا
وُضِعَ لَهُ اِبْتِدَاءً.
وَالمَجَــــازُ: لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ فِيْمَا
وُضِعَ لَهُ بِوَضْعٍ ثَانٍ لِعَلاَقَةٍ.
وَاللُّغَــــوِيُّ: مَا وَضَعَهُ أَهْلُ
اللُّغَةِ بِاصْطِلاَحٍ أَوْ تَوْقِيْفٍ، كَالأَسَدِ لِلْحَيَوَانِ المُفْتَرِسِ.
وَالشَّرْعِيُّ: مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ، كَالصَّلاَةِ
لِلْعِبَادَةِ المَخْصُوْصَةِ.
وَالعُرْفِيُّ: مَا وَضَعَهُ أَهْلُ العُرْفِ
العَامِّ، كَالدَّابَّةِ لِذَوَاتِ الأَرْبَعِ كَالحِمَارِ، وَهِيَ لُغَةً اِسْمٌ
لِكُلِّ مَا دَبَّ عَلَى الأَرْضِ؛ أَوِالخَاصِّ، كَالفَاعِلِ لِلإِسْمِ المَعْرُوْفِ
عِنْدَ النُّحَاةِ. وَالعُرْفُ العَامُّ: مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ نَاقِلُهُ؛ وَالعُرْفُ
الخَاصُّ: مَا تَعَيَّنَ نَاقِلُهُ، وَرُبَّمَا يُقَالُ لِمَا اسْتَعْمَلَهُ حَمَلَةُ
الشَّرْعِ لِمَعْنًى مَخْصُوْصٍ أَنَّهُ شَرْعِيٌّ.
(فَصْلٌ): إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ
أَنَّ اللَّفْظَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى عُرْفِ المُتَكَلِّمِ بِهِ، فَاللَّفْظُ
الوَارِدُ فِيْ مُخَاطَبَةِ الشَّارِعِ يُحْمَلُ عَلَى المَعْنَى الشَّرْعِيِّ - وَإِنْ
كَانَ لَهُ مَعْنًى عُرْفِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ أَوْ هُمَا - لأَنَّهُ عُرْفُهُ.
ثُمَّ
إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى شَرْعِيٌّ، أَوْ كَانَ وَصَرَفَ عَنْهُ صَارِفٌ فَالمَحْمُوْلُ
عَلَيْهِ المَعْنَى العُرْفِيُّ العَامُّ.
ثُمَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى عُرْفِيٌ
عَامٌّ، أَوْ كَانَ وَصَرَفَ عَنْهُ صَارِفٌ فَالمَحْمُوْلُ عَلَيْهِ المَعْنَى
اللُّغَوِيُّ لِتَعَيُّنِهِ حِيْنَئِذٍ.
وكَذَلِكَ اللَّفْظُ الوَارِدُ فِيْ مُخَاطَبَةِ
أَهْلِ العُرْفِ الخَاصِّ يُحْمَلُ عَلَى المَعْنَى المُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ. فَإِذَا
قَالَ النَّحْوِيُّ مَثَلاً: "الفَاعِلُ مَرْفُوْعٌ وَالمَفْعُوُل مَنْصُوْبٌ"
وَجَبَ حَمْلُ الرَفْعِ وَالنَّصْبِ وَالفَاعِلِ وَالمَفْعُوْلِ عَلَى مَعَانِيْهَا
المَعْرُوْفَةِ فِيْ النَّحْوِ لاَ غَيْرُ.
(فَصْلٌ): إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ
السُّنَّةِ أُطْلِقَ عَلَى مَعَانٍ لُغَةً. قَالَ: فِيْ كِتَابِهِ القَامُوْسِ المُحِيْطِ:
السُّنَّةُ بِالضَّمِّ: الوَجْهُ، أَوْ حُرُّهُ، أَوْ
دائِرَتُهُ، أوِ الصُّوْرَةُ، أَوِ الجَبْهَةُ وَالجَبِينانِ،
وَالسِيْرَةُ، وَالطَّبِيْعَةُ، وَتَمْرٌ بِالمَدِيْنَةِ، وَمِنَ اللهِ: حُكْمُهُ،
وأمْرُهُ، ونَهْيُهُ اهـ. وَفِيْ شَرْحِ الإِحْيَاءِ: السُّنَّةُ الطَّرِيْقَةُ
المَسْلُوْكَةُ اهـ. وَأُطْلِقَ شَرْعًا عَلَى مَعَانٍ أَيْضًا، مِنْهَا: سِيْرَةُ
النَّبِيِّ r وَطَرِيْقَتُهُ، وَمِنْهَا: مَا يُثَابُ فَاعِلُهُ وَلاَ يُعَاقَبُ
تَارِكُهُ.
وَأَنَّ لَفْظَ الجَمَاعَةِ أُطْلِقَ لُغَةً
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُجْتَمِعٍ ثَلاَثَةٍ فَأَكْثَرَ. يُقَالُ: جَمَاعَةُ النَّاسِ،
وَجَمَاعَةُ الطَّيْرِ، وَجَمَاعَةُ الظِّبَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأُطْلِقَ شَرْعًا
عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا: رَبْطُ الإِنْسَانِ صَلاَتَهُ بِصَلاَةِ الآخَرِ بِشُرُوْطٍ
مَخْصُوْصَةٍ، وَمِنْهَا: اِجْتِمَاعُ المُسْلِمِيْنَ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ بَايَعَهُ
أَهْلُ الحَلِّ وَالعَقْدِ بِالشُّرُوْطِ المُعْتَبَرَةِ كَمَا فِيْ حَدِيْثِ: «مَنْ
فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَمَاتَ، فَمِيْتَتُهُ مِيْتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
(فَصْلٌ): إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ
أَنَّ لَفْظَ أَهْلِ السُّنَّة وَالجَمَاعَةِ لَفْظٌ عُرْفِيٌّ وَضَعَهُ هَؤُلاَءِ
الفِرَقُ الأَرْبَعَةُ، أَعْنِيْ: المُحَدِّثِيْنَ وَالصُّوْفِيَّةَ وَالأَشَاعِرَةَ
وَالمَاتُرِيْدِيَّةَ لِأَنْفُسِهِمْ لِمَا أَيْقَنُوْهُ مِنْ أَنَّهُمْ عَلَى السُّنَّةِ
أَيْ عَلَى طَرِيْقَةِ النَّبِيِّ r وَطَرِيْقَةِ أَصْحَابِهِ. وَيَبْقَى هَذَا الإِسْمُ إِلَى يَوْمِنَا
هَذَا لِمَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلاَءِ، وَصَارَ بِحُكْمِ العُرْفِ عَلَمًا
لَهُمْ، بِحَيْثُ إِذَا أُطْلِقَ لَمْ يَنْصَرِفْ إِلاَّ إِلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ
نَقْلُهُ عَنْ شَارِحِ الإِحْيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ "إِذَا أُطْلِقَ" إلخ.
وَقَالَ أَيْضًا فِيْ أَوَّلِ شَرْحِ الرِّسَالَةِ القٌدْسِيَّةِ مِنَ الإِحْيَاءِ:
وَالمُرَادُ بِأَهْلِ السُّنَّةِ هُمْ الفِرَقُ الأَرْبَعَةُ: المٌحَدِّثُوْنَ وَالصُّوْفِيَّةُ
وَالأَشَاعِرَةُ وَالمَاتُرِيْدِيَّهُ اهـ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ عَرَفْتَ أَنَّهُ
لاَ يَجُوْزُ إِطْلاَقُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ عَلَى غَيْرِ هَؤُلاَءِ
الفِرَقِ الأَرْبَعَةِ.
(مَسْأَلَةٌ): إِذَا قِيْلَ: هَلْ يَجُوْزُ
أَنْ يُقَالَ فِيْ هَذَا الزَّمَانِ لِمَنْ لاَ يُقَلِّدُ وَاحِدًا مِنَ المَذَاهِبِ
الأَرْبَعَةِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ
؟.
أُجِيْبَ: لاَ يَجُوْزُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِ الحَدِيْثِ وَلاَ مِنَ الصُّوْفِيَّةِ وَلاَ مِنَ الأَشَاعِرَةِ وَلاَ مِنَ
المَاتُرِيْدِيَّةِ. أَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الحَدِيْثِ فَلِمَا سَيَأْتِيْ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ مِنَ الصُّوْفِيَّةِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ هَؤُلاَءِ النَّابِذِيْنَ
لِلْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إِنْكَارًا لِلصُّوْفِيَّةِ. وَأَمَّا
كَوْنُهُ لَيْسَ مِنَ الأَشَاعِرَةِ وَلاَ مِنَ المَاتُرِيِدِيَّةِ فَلِمَا تَقَدَّمَ
مِنْ أَنَّ أَبَا الحَسَنِ الأَشْعَرِيَّ إِنَّمَا قَامَ بِنُصْرَةِ نُصُوْصِ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّ أَبَا مَنْصُوْرٍ المَاتُرِيْدِيَّةَ إِنَّمَا قَامَ بِنُصْرَةِ
نُصُوْصِ مَذْهَبِ أَبِيْ حَنِيْفَةَ، وَأَنَّ المَالِكِيَّةَ كُلَّهُمْ أَشَاعِرَةٌ،
وَكَذَا فُضَلاَءُ الحَنَابِلَةِ، وَأَنَّ المَذَاهِبَ الأَرْبَعَةَ كُلَّهُمْ أَشَاعِرَةٌ
وَمَاتُرِيْدِيَّةٌ إِلاَّ مَنْ لَحِقَ مِنْهُمْ بِتَجْسِيْمٍ أَوِ اعْتِزَالِ، فَيَلْزَمُ
مِنْ عَدَمِ تَقَيُّدِهِ لِأَحَدِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ عَدَمُ كَوْنِهِ أَشْعَرِيًّا
أَوْ مَاتُرِيْدِيًّا، فَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كَوْنِهِ مِنْ هَذِهِ الفِرَقِ الأَرْبَعِ
عَدَمُ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ
هَذَا الإِسْمَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فِيْ العُرْفِ.
(مَسْألةٌ): إِذَا قَالَ قَائِلُوْنَ: إِنَّكُمْ
اِعْتَبَرْتُمْ أَهْلَ الحَدِيْثِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَنَحْنُ
أَهْلُ الحَدِيْثِ لِأَنَّا نَنْبُذُ المَذَاهِبَ الأَرْبَعَةَ وَنَرْجِعُ إِلَى
القُرْآنِ وَالأَحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ فَكَيْفَ لاَ تَعْتَبِرُوْنَنَا مِنْ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ ؟.
فَالجَوَابُ: أَنَّ لَفْظَ أَهْلِ الحَدِيْثِ
وَالمُحَدِّثِ مِنَ الأَلْفَاظِ الَّتِىْ اصْطَلَحَ عَلَيْهَا المُحَدِّثُوْنَ لِمَعْنًى
مَخْصُوْصٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ وَضَعُوْهُ اِسْمًا لِمَنْ كَانَ جَامِعًا لِلشُّرُوْطِ
المُعْتَبَرَةْ عِنْدَهُمْ، فَيَجِبُ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ الإِطْلاَقِ عَلَى
مَا هُوَ المُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ فَقَدْ قَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ فِيْ كِتَابِهِ
"مُعِيْدِ النِّعَمِ وَمُبِيْدِ النِّقَمِ": المُحَدِّثُ مَنْ عَرَفَ
الأَسَانِيْدَ وَالعِلَلَ وَأَسْمَاءَ الرِّجَالِ وَالعَالِيَ وَالنَّازِلَ، وَحَفِظَ
مَعَ ذَلِكَ جُمْلَةً مُسْتَكْثَرَةً مِنَ المُتُوْنِ، وَسَمِعَ الكُتُبَ السِّتَّةَ
وَمُسْنَدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَسُنَنَ البَيْهَقِيِّ وَمُعْجَمَ الطَّبْرَانِيِّ،
وَضَمَّ إِلَى هَذَا القَدْرِ أَلْفَ جُزْءٍ مِنَ الأَجْزَاءِ الحَدِيْثِيَّةِ كَانَ
ذَلِكَ أَقَلَّ دَرَجَاتِهِ. فَإِذَا سَمِعَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَدَارَ عَلَى الشُّيُوْخِ
وَكَتَبَ الطِّبَاقَ وَتَكَلَّمَ فِيْ العِلَلِ وَالوَفَيَاتِ وَالأَسَانِيْدِ
عُدَّ فِيْ أَوَّلِ دَرَجَاتِ المُحَدِّثِيْنَ، ثُمَّ يَزِيْدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ
شَاءَ مَا شَاءَ اهـ. قَالَ السَّخَاوِيُّ فِيْ الجَوَاهِرِ وَالدُّرَرِ: وَالمُقْتَصِرُ
عَلَى السَّمَاعِ لاَ يُسَمَّى مُحَدِّثًا. وَيُرْوَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ المُقْتَصِرَ
عَلَى السَّمَاعِ لاَ يُؤْخَذُ عَنْهُ العُلُوْمُ اهـ.
وَبِذَلِكَ عَرَفْتَ أَنَّ مَنْ نَبَذَ المَذَاهِبَ
الأَرْبَعَةَ اليَوْمَ وَأَقْبَلَ عَلَى الحَدِيْثِ وَلَمْ يَكُنْ جَامِعًا لِلشُّرُوْطِ
المَذْكُوْرَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الحَدِيْثِ بِالمَعْنَى العُرْفِيِّ فَلَمْ
يَكُنْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ. وَالإِنْسَانُ لاَ يَصِيْرُ أَهْلاً
لِعْلْمٍ بِمُجَرَّدِ إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ حَتَّى أَحَاطَ بِأَكْثَرِ
مَسَائِلِهِ وَصَارَتْ مَلَكَةً لَهُ كَمَا أَنَّ الإِنْسَاَن لاَ يَصِيْرُ فَقِيْهًا
أَوْ نَحْوِيًّا بِمُجَرَّدِ اشْتِغَالِهِ بِالفِقْهِ أَوِ النَّحْوِ إِلاَّ إِذَا
صَارَ الفِقْهُ أَوِ النَّحْوُ مَلَكَةً لَهُ، وَلاَ سِيَّمَا مَنْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ
بِالحَدِيْثِ إِلاَّ اسْمَهُ أَوْ لاَ عِلْمَ لَهُ إِلاَّ بِأَحَادِيْثَ وَجَدَهَا
مَنْشُوْرَةً فِيْ بُطُوْنِ الكُتُبِ الَّتِى لَيْسَتْ مِنْ كُتُبِ الحَدِيْثِ أَوْ
فِي صَفَحَاتِ المَجَلاَّتِ وَالجَرَائِدِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الحَدِيْثِ فِيْ شَيْءٍ.
(مَسْأَلةٌ): إِذَا قِيْلَ كَيْفَ تَعُدُّوْنَ
الصُّوْفِيَّةَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَقَدْ قِيْلَ إِنَّهُمْ أَخَذُوْا
عُلُوْمَهُمْ مِنْ بُوْذِيَّةِ الهِنْدِ وَفَلاَسِفَةِ اليُوْنَانِ فَهُمْ إِنْ لَمْ
يَكُوْنُوْا كَافِرِيْنَ فَإِنَّهُمْ مُبْتَدِعُوْنَ فَاسِقُوْنَ كَمَا فِيْ الأَخْلاَقِ
لِلْغَزَالِيِّ لِلدُّكْتُوْر زَكِي مُبَارَك، وَكَمَا نَقَلَهُ الزَّبِيْدِيُّ عَنِ
المَازِرِيِّ فِيْ مُقَدِّمَةِ شَرْحِ الإِحْيَاءِ.
أُجِيْبَ: حَاشَا وَكَلاَّ بَلْ هُمْ مِنْ خِيَارِ
المُسْلِمِيْنَ وَأَفَاضِلِهِمْ فَإِنَّ حَقِيْقَة الصُّوْفِيِّ أَنَّهُ عَالِمٌ عَامِلٌ بِعِلْمِهِ عَلَى وَجْهِ
الإِخْلاَصِ.
وَقَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ فِيْ جَمْعِ الجَوَامِعِ:
وَأَنَّ طَرِيقَ الشَّيْخِ الْجُنَيْدِ وَصَحْبِهِ طَرِيقٌ مُقَوَّمٌ اهـ.
وَقَالَ المَحَلِّيُّ فِيْ شَرْحِه: فَإِنَّهُ
خَالٍ عَنْ الْبِدَعِ، دَائِرٌ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّبَرِّي
مِنْ النَّفْسِ. وَمِنْ كَلَامِهِ: الطَّرِيقُ إلَى اللهِ تَعَالَى مَسْدُودٌ
عَلَى خَلْقِهِ إلَّا عَلَى الْمُقْتَفِينَ آثَارَ رَسُولِ اللهِ r.
وَقَالَ القُطْبُ الشَّعْرَانِيّ فِيْ مُقَدِّمَةِ
طَبَقَاتِ الصُّوْفِيَّةِ: ثُمَّ اعْلَمْ يَا أَخِي - رَحِمَكَ اللهُ - أَنَّ عِلْمَ
التَّصَوُّفِ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ اِنْقَدَحَ فِيْ قُلُوْبِ الأَوْلِيَاءِ حِيْنَ
اسْتَنَارَتْ بِالعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكُلُّ مَنْ عَلِمَ بِهِمَا
اِنْقَدَحَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ عُلُوْمٌ، وَآدَابٌ، وَأَسْرَارٌ، وَحَقَائِقُ تَعْجِزُ
الأَلْسُنُ عَنْهَا، نَظِيْرُ مَا انْقَدَحَ لِعُلَمَاءِ الشَّرِيْعَةِ مِنَ الأَحْكَامِ
حِيْنَ عَمِلُوْا بِمَا عَلِمُوْهُ مِنَ أَحْكَامِهَا.
فَالتَّصَوُّفُ إِنَّمَا هُوَ زُبْدَةُ عَمَلِ العَبْدِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيْعَةِ
إِذَا خَلاَ عَمَلُهُ مِنَ العِلَلِ وَحُظُوْظِ النَّفْسِ، كَمَا أَنَّ عِلْمَ المَعَانِيْ
وَالبَيَانِ زُبْدَةُ عِلْمِ النَّحْوِ. فَمَنْ جَعَلَ عِلْمَ التَّصَوُّفِ عِلْماً
مُسْتَقِلاًّ صَدَقَ، وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْ عَيْنِ أَحْكَامِ الشَّرِيْعَةِ صَدَقَ،
كَمَا أَنَّ مَنْ جَعَلَ عِلْمَ المَعَانِي وَالبَيَانِ عِلْماً مُسْتَقِلاًّ فَقَدْ
صَدَقَ، وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ عِلْمِ النَّحْوِ فَقَدْ صَدَقَ، لَكِنَّهُ
لاَ يُشْرِفُ عَلَى ذَوْقِ أَنَّ التَّصَوُّفَ تَفَرَّعَ مِنْ عَيْنِ الشَّرِيْعَةِ،
لاَ مَنْ تَبَحَّر فِيْ عِلْمِ الشَّرِيْعَةِ حَتَّى بَلَغَ إِلَى الغَايَةِ اهـ.
وَقَدْ أَجْمَعَ القَوْمُ عَلَى أَنَّهُ لاَ
يَصْلُحُ لِلتَّصَدُّرِ فِيْ طَرِيْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ مَنْ تَبَحَّرَ
فِيْ عِلْمِ الشَّرِيْعَةِ، وَعَلِمَ مَنْطُوْقَهَا وَمَفْهُوْمَهَا، وَخَاصَّهَا
وَعَامَّهَا، وَنَاسِخَهَا وَمَنْسُوْخَهَا، وَتَبَحَّرَ فِيْ لُغَةِ العَرَبِ حَتَّى
عَرَفَ مَجَازَاتِهَا وَاسْتِعَارَاتِهَا، وَغَيْرَ ذَلِكَ. فَكُلُّ صُوْفِيٍّ فَقِيْهٌ
وَلَا عَكْسَ اهـ.
وَقَالَ الجُنَيْدُ: مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ
بِأُصُوْلِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اهـ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ القُرْآنَ
وَلَمْ يَكْتُبْ الحَدِيْثَ لاَ يُقْتَدَى بِهِ فِيْ هَذَا الأَمْرِ، لِأَنَّ عِلْمَنَا
مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اهـ.
وَقالَ الشَّعْرَانِيُّ: وَكَانَ الشَّيْخُ
عِزُّ الدِّيْنِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُوْلُ - بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ
عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ وَتَسْلِيْمِهِ لِلْقَوْمِ: مِنْ أَعْظَمِ
الدَّلِيْلِ عَلَى أَنَّ طَائِفَةَ الصُّوْفِيَّةِ قَعَدُوْا عَلَى أَعْظَمِ أَسَاسِ
الدِّيْنِ مَا يَقَعُ عَلَى أَيْدِيْهِمْ مِنَ الكَرَامَاتِ، وَالخَوَارِقِ، وَلَا
يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَطُّ لِفَقِيْهٍ، إِلاَّ إِنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ كَمَا
هُوَ مُشَاهَدٌ. وَكَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ
يُنْكِرُ عَلَى القَوْمِ، وَيَقُوْلُ: هَلْ لَنَا طَرِيْقٌ غَيْرُ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
فَلَمَّا ذَاقَ مَذَاقَهُمْ، وَقَطَعَ سِلْسِلَةَ الحَدِيْدِ بِكَرَاسَةِ الوَرَقِ
صَارَ يَمْدَحُهُمْ كُلَّ المَدْحِ اهـ. هَذَا فِيْ مَاهِيَةِ التَّصَوُّفِ وَفِيْ
الصَّادِقِيْنَ مِنَ الصُّوْفِيَّةِ.
وَأَمَّا مَنْ انْتَسَبُوا إِلَيْهِمْ وَلَيْسُوا
مِنْهُم فَلاَ كَلاَمَ فِيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَدَّعُوْنَ التَّصَوُّفَ وَلاَ يَفُوْنَ
شُرُوْطَهُ. وَالشَّرْطُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ العَدَمُ، فَمَنْ حَكَمَ عَلَى جَمِيْعِ
الصُّوْفِيَّةِ بِحُكْمِ هَؤُلاَءِ المُنْتَسِبِيْنَ الكَاذِبِيْنَ فَقَدْ أَخْطَأَ،
إِذْ حَكَمَ عَلَى الشَّيْءِ بِحُكْمِ غَيْرِه، وَكَانَ كَمَنْ رَأَىْ تِمْثَالَ
فرَسٍ فَقَالَ: "هَذَا فَرَسٌ، وَكُلُّ فَرَسٍ صَهَّالٌ، فَهَذَا صَهَّالٌ"
مُشِيْرًا إِلَى ذَلِكَ التِّمْثَاِل.
وَمِثْلُ هَذَا سَفْسَطَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا
المُنْكِرُوْنَ لِيَسْتَدْرِجُوْا بِهَا قُلُوْبَ الأَغْمَارِ وَهُمْ العَادُوْنَ
بَلْ مَنْ حَكَمَ أَنَّ هَؤُلاَءِ المُنْتَسِبِيْنَ هُمْ مِنَ الصُّوْفِيَّةِ بِعُمُوْمِ
الاِسْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ أَيْضًا إِذْ حَكَمَ عَلَى الكُلِّ بِحُكْمِ البَعْضِ وكَاَنَ
كَمَنْ صَارَ رَأَىْ تِمْسَاحًا يُحَرِّكُ فَكَّهُ الأَعْلَى وَهُوَ حَيَوَانٌ، فَقَالَ:
كُلُّ حَيَوَانٍ يُحَرِّكُ فَكَّهُ الأَعْلَى.
وَلاَ يَخْفَى عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى
مُسْكَةٍ مِنَ العَقْلِ فَسَادُ هَذَا القِيَاسِ، فَمَنْ رَأَىْ إِنْسَانًا مَجْنُوْنًا،
فَقَالَ: إِنَّ هَذَا مَجْنُوْنٌ، وَهُوَ إِنْسَانٌ، فَكُلُّ إِنْسَانِ مَجْنُوْنٌ.
فَلاَ شَكَّ أَنَّهُ هُوَ المَجْنُوْنُ.
وَهَذَا القَدْرُ كَافٍ فِيْ الجَوَابِ لِمَنْ
سَاعَدَهُ التَّوْفِيْقُ، وَلَكِنْ المَخْذُوْلُ لاَ يَنْفَعُهُ التَحْقِيْقُ، بَلْ
يَقُوْلُ: إِنَّهُ تَمْوِيْهٌ وَتَزْوِيْقٌ.
(مَسْأَلَةٌ): إِذَا قِيْلَ: مَا تَقُوْلُ فِيْ
هَؤُلاَءِ الَّذِيْنَ نَبَذُوْا اليَوْمَ المَذَاهِبَ الأَرْبَعَةَ، وَزَعَمُوْا أَنَّهُمْ
مُجْتَهِدُوْنَ اِجْتِهَادًا مُطْلَقًا فِيْ المَسَائِلِ الدِّيْنِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ
لَمْ يَتَمَسَّكُوْا فِيْ دِيْنِهِمْ إِلاَّ بِالقُرْآنِ وَالأَحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ.
أُجِيْبَ: إِنَّهُمْ قَوْمٌ حَيَارَى فِيْ أَمْر
دِيْنِهِمْ تَضْطَرِبُ أَقْوَالُهُمْ وَتَزَلْزَلَ أَقْدَامُهُمْ، لاَ يَسْتَقِرُّوْنَ
عَلَى شَيْءٍ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيْعًا وَقُلُوْبُهُمْ شَتَّى، يَدَّعُوْنَ الإِجْتِهَادَ
وَلَيْسُوْا مِنْ أَهْلِهِ، يُنْكِرُوْنَ التَّقْلِيْدَ وَهُمْ مَغْلُوْلُوْنَ بِغُلِّهِ،
يَأْبَوْنَ تَقْلِيْدَ الأَئِمَّةِ المُجْتَهِدِيْنَ المُتَقَدِّمِيْنَ وَيُقَلِّدُوْنَ
أَكَابِرَهُمْ الضَّالِّيْنَ، يُحَرِّمُوْنَ التَّقْلِيْدَ وَهُمْ مُقَلِّدُوْنَ،
وَيُوْجِبُوْنَ الإِجْتِهَادَ وَهُمْ لاَ يَسْتَطِيْعُوْنَ، قَوْمٌ لَعِبَتْ بِهِمْ
الأَهْوَاءُ، وَتَشَتَّتَتْ بِهِمْ الآرَاءُ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الشَّهَوَاتُ،
وَأَحَاطَتْ بِهْمْ ظُلُمَاتُ الشُّبُهَاتِ، فَرَأَوْا التَّقَيُّدَ بِأَحَدِ المَذَاهِبِ
الأَرْبَعَةِ حِجَابًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِهِمْ، وَسِتْرًا مَنِيْعًا مِنْ
أَهْوَائِهِمْ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ رَفَضُوْهَا بِالْكُلِّيَّةِ تَوَصُّلاً بِذَلِكَ
إِلَى نَيْلِ أَغْرَاضِهِمْ الدَّنِيَّةِ، وَعَمَدُوْا إِلَى مَا لاَ يَدَ لَهُمْ
مِنْ الإِجْتِهَادِ، وَهُمْ فِيْ وَادٍ، وَهُوَ فِيْ وَادٍ آخَرَ.
نَعَمْ هَؤُلاَءِ مُجْتَهِدُوْنَ فِيْ حَلِّ
رِبْقَةِ التَّكْلِيْفِ لِطَلَبِ مَا يَشْتَهُوْنَ، وَقَالُوْا: نَحْنُ أَحْرَارُ
العُقُوْلِ وَالفِكْرِ، وَنَبْلُغُ الغَايَةَ فِيْ كَمَالِ العِلْمِ وَقُوَّةِ النَّظَرِ.
نَعَمْ إِنَّهُمْ أَحْرَارُ العُقُوْلِ فِيْ
اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَقَضَاءِ الوَطَرِ الَّذِي أَفْضَى بِهِمْ إِلَى اسْتِبَاحَةِ
بَعْضِ المُحَرَّمَاتِ، وَتَرْكِ بَعْضِ الوَاجِبَاتِ، وَتَحْرِيْمِ بَعْضِ المَنْدُوْبَاتِ،
فَاسْتَرْسَلُوْا فِيْ الشَّهَوَاتِ اِسْتِرْسَالَ البَهَائِمِ فِيْ المُخْصِبَاتِ
إِنْ لَمْ يَلِقْ بِهِمْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ إِبَاحِيُّوْنَ، فَأَشْبَهُ الأَسْمَاءِ
بِهِمْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ حَشَوِيُّوْنَ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّيْنِ السُّبْكِيُّ:
وَأَمَّا الحَشَوِيَّةُ فَهِيَ طَائِفَةٌ رَذِيْلَةٌ جُهَّالٌ يَنْتَسِبُوْنَ إِلَى
أَحْمَدَ، وَأَحْمَدُ مُبَرَّأٌ مِنْهُمْ. وَسَبَبُ نِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ أَنَّهُ
قَامَ فِيْ دَفْعِ المُعْتَزِلَةِ وَثَبَتَ فِيْ المِحْنَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَنُقِلَتْ
عَنْهُ كَلِمَاتٌ مَا فَهِمَهَا هَؤُلاَءِ الجُهَّالُ فَاعْتَقَدُوْا هَذَا الإِعْتِقَادَ
السَّيِّءَ وَصَارَ المُتَأَخِّرُ مِنْهُمْ يَتْبَعُ المُتَقَدِّمَ إِلاَّ مَنْ عَصَمَهُ
اللهُ تَعَالَى.
وَمَا زَالُوْا مِنْ حِيْنَ نَبَغُوْا مُسْتَذَلِّيْنَ
لَيْسَ لَهُمْ رَأْسٌ وَلاَ مَنْ يُنَاظِرُ، وَإِنَّمَا فِيْ كُلِّ وَقْتٍ لَهُمْ
ثَوَرَاتٌ وَيَتَعَلَّقُوْنَ بِبَعْضِ أَتْبَاعِ الدُوَلِ
وَيَكُفُّ اللهُ شَرَّهُمْ وَمَا تَعَلَّقُوْا بِأَحَدٍ إِلاَّ وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ
إِلَى سُوْءٍ وَأَفْسَدُوْا اِعْتِقَادَ جَمَاعَةٍ شُذُوْدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ وَلاَ سِيَّمَا مِنْ بَعْضِ المُحَدِّثِيْنَ بِزَمَانَهِ الَّذِيْنَ
نَقَصَتْ عُقُوْلُهُمْ أَوْ غَلَبَ عَلَيْهَا مَنْ أَضَلَّهُمْ فَاعْتَقَدُوْا أَنَّهُمْ
يَقُوْلُوْنَ بِالحَدِيْثِ وَلَقْد كَانَ أَفْضَلُ المُحَدِّثِيْنَ بِدِمَشْقَ ابْنُ
عَسَاكِر يَمْتَنِعُ مِنْ تَحْدِيْثِهِمْ وَلاَ يُمَكِّنُهُمْ يَحْضُرُوْنَ بِمَجْلِسِهِ
وَكَانَ ذَلِكَ فِيْ أَيَّامِ نُوْرِ الدِّيْنِ الشَّهِيْدِ وَكَانُوْا مُسْتَذَلِّيْنَ
غَايَةَ الذُلَّةِ.
ثُمَّ جَاءَ فِيْ آخِرِ المِائَةِ السَّابِعَةِ
رَجُلٌ لَهُ ذَكَاءٌ وَاطِّلاَعٌ - يَعْنِيْ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - وَلَمْ يَجِدْ شَيْخًا
يَهْدِيْهِ، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَهُوَ جَسُوْرٌ مٌتَجَرِّدٌ لِتَقْرِيْرِ
مَذْهَبِهِ، وَيَجِدُ أُمُوْرًا بَعِيْدَةً فَبِجَسَارَتِهِ يَلْتَزِمُهَا، فَقَالَ
بِقِيَامِ الحَوَادِثِ بِذَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى
مَا زَالَ فَاعِلاً، وَأَنَّ التَّسَلْسُلَ لَيْسَ بِمُحَالٍ فِيْمَا مَضَى كَمَا
هُوَ فِيْمَا سَيَأْتِىْ. وَشَقَّ العَصَا وَشَوَّشَ عَقَائِدَ المُسْلِمِيْنَ وَأَغْرَى
بَيْنَهُمْ. وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى العَقَائِدِ فِيْ عِلْمِ الكَلاَمِ حَتَّى تَعَدَّى،
وَقَالَ: إِنَّ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ r
مَعْصِيَةٌ، وَإِنَّ الطَّلاَقَ الثَّلاَثَ لاَ يَقَعُ، وَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِطَلاَقِ
امْرَأَتِهِ وَحَنِثَ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ. وَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى
حَبْسِهِ الحَبْسَ الطَّوِيْلَ، فَحَبَسَهُ السُّلْطَانُ وَمَنَعَهُ مِنَ الكِتَابَةِ
فِيْ الحَبْسِ، وَأَنْ لاَ يَدْخُلَ بِدَوَاةٍ، وَمَاتَ فِيْ الحَبْسِ.
ثُمَّ حَدَثَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُشِيْعُ
عَقَائِدَهُ، وَيُعَلِّمُ مَسَائِلَهُ، وَيُلْقِى ذَلِكَ إلَى النَّاسِ سِرًّا، وَيَكْتُمُهُ
جَهْرًا، فَعَمَّ الضَّرَرُ بِذَلِكَ، حَتَّى وَقَفْتُ فِيْ هَذَا الزَّمَانِ عَلَى
قَصِيْدَةٍ نَحْوِ سِتَّةِ آلَافِ بَيْتٍ يَذْكُرُ فِيْهَا عَقَائِدَهُ وَعَقَائِدَ
غَيْرِهِ - وَهِيَ قَصِيْدَةٌ لاِبْنِ زَفِيْل، رَجُلٍ مِنَ الحَنَابِلَةِ - رَدَّ
فِيْهَا عَلَى الأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَجَعَلَهُمْ
جَهْمِيّةً تَارَةً وَكُفَّارًا أُخْرَى، وَيَزْعُمُ بِجَهْلِهِ أَنَّ عَقَائِدَهُ
عَقَائِدُ أَهْلِ الحَدِيْثِ، فَوَجَدْتُ هَذِهِ القَصِيَدَةَ تَصْنِيْفًا فِيْ عِلْمِ
الكَلاَمِ الَّذِيْ نَهَى العُلَمَاءُ مِنَ النَّظَرِ فِيْهِ لَوْ كَانَ حَقًّا وَفِيْ
تَقْرِيْرِ العَقَائِدِ البَاطِلَةِ وَبَرَعَ بِهَا. وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ
حَمْلُ العَوَامِ عَلَى تَكْفِيْرِ كُلِّ مَنْ سِوَاهُ وَسِوَى طَائِفَتِهِ.
فَهَذِهِ ثَلاَثُ أُمُوْرٍ هِيَ مَجَامِعُ مَا
تَضَمَّنَهُ هَذِهِ القَصِيْدَةُ. وَالأَوَّلُ مِنَ الثَّلاَثِ: حَرَامٌ، لأَنَّ
النَّهْيَ عَنْ عِلْمِ الكَلاَمِ إِنْ كَانَ نَهْيَ تَنْزِيْهٍ فِيْمَا تَدْعُو
الحَاجَةُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى المُبْتَدِعَةِ فِيْهِ، فَهُوَ نَهْيُ تَحْرِيْمٍ
فِيْمَا لاَ تَدْعُوْ الحَاجَةُ إِلَيْهِ فَكَيْفَ فِيْمَا هُوَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي:
العُلَمَاءُ مُخْتَلِفُوْنَ فِيْ التَكْفِيْرِ بِهِ وَلَمْ يَنْتَهِ إِلَى هَذَا
الحَدِّ. أَمَّا مَعَ هَذِهِ المُبَالَغَةِ فَفِي بَقَاءِ الخِلاَفِ فِيْهِ نَظَرٌ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالقَطْعِ أَنَّ هَؤُلاَءِ الطَوَائِفَ
الثَّلاَثَ، الشَّافِعِيَّةَ وَالمَالِكِيَّةَ وَالحَنَفِيَّةَ وَمُوَافِقِيْهِمْ
مِنَ الحَنَابِلَةِ مُسْلِمُوْنَ وَلَيْسُوْا بِكَافِرِيْنَ. فَالقَوْلُ بِأَنَّ جَمِيْعَهُمْ
كُفَّارٌ وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ. كَيْفَ لاَ يَكُوْنُ كُفْرًا وَقَدْ قَالَ
رَسُوْلُ اللهِ r: ((إِذَا قَالَ المُسْلِمُ لِأَخِيهِ يَا
كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا)) وَالضَّرُوْرَةُ أَوْجَبَتْ بِأَنَّ بَعْضَ
مَنْ كَفَّرَهُمْ مُسْلِمٌ، وَالحَدِيْثُ اِقْتَضَى أَنَّهُ يَبُوْءُ بِهِا أَحَدُهُمَا
فَيَكُوْنُ القَائِلُ هُوَ الَّذِي بَاءَ بِهَا اِنْتَهَى مَا قَالَهُ التَّقِيُّ
السُّبْكِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْهُ شَارِحُ الإِحْيَاءِ.
وَلَمْ يَزَلْ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّةَ
يَنْتَحِلُهُ النَّاسُ وَيَزِيْدُوْنَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ بِمَمَرِّ الدُّهُوْرِ
وَالسِّنِيْنَ يَزْدَادُ أَتْبَاعًا وَاتِّسَاعًا حَتَّى ظَهَرَ فِيْ أَثْنَاءِ القَرْنِ الثَّانِيَ عَشَرَ فِيْ بِلاَدِ
نَجْدِ الحِجَازِ رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ: "عَبْدُ الوَهَّابِ"،
وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الفِرْقَةُ الوَهَّابِيَّةُ. كَانَ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
وَزَادَهُ أُمُوْرًا بَاطِلَةً مَجَامِعُهَا عَشَرَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ جَمِيْلْ أَفَنْدِي
صِدْقِي الزَّهَاوِيُّ فِيْ الفَجْرِ الصَّادِقِ، الأَوَّلُ: إِثْبَاتُ الوَجْهِ وَاليَدِ
وَالجِهَةِ لِلْبَارِى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَجْعُلُهُ جِسْمًا يَنْزِلُ وَيَصْعُدُ،
الثَّانِي: تَقْدِيْمُ النَّقْلِ عَلَى العَقْلِ وَعَدَمِ الرُّجُوْعِ إِلَيْهِ فِيْ
الأُمُوْرِ الدِّيْنِيَّةِ يَعْنِى الإِعْتِقَادِيَّةَ، الثَّالِثُ: نَفْيُ الإِجْمَاعِ
وَإِنْكَارُهُ. الرَّابِعُ: نَفْيُ القِيَاسِ. الخَامِسُ: عَدَمُ جَوَازِ التَّقْلِيْدِ
لِلْمُجْتَهِدِيْنَ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّيْنِ وَتَكْفِيْرُ مَنْ قَلَّدَهُمْ. السَّادِسُ:
تَكْفِيْرُهُمْ لِكُلِّ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنَ المُسْلِمِيْنَ, السَّابِعُ: النَّهْيُ
عَنِ التَّوَسُّلِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالرَّسُوْلِ r
أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ. الثَّامِنُ:
تَحْرِيْمُ زِيَارَةِ قُبُوْرِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ. التَّاسِعُ: تَكْفِيْرُ
مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ وَعَدُّهُ مُشْرِكًا. العَاشِرُ: تَكْفِيْرُ مَنْ نَذَرَ
لِغَيْرِ اللهِ أَوْ ذَبَحَ عِنْدَ مَرَاقِدِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ.
وَسَاعَدَ مُحَمَّدًا هَذَا عَلَى إِظْهَارِ
عَقِيْدَتِهِ الزَّائِغَةِ مُحَمَّدُ بْنُ سُعُوْدٍ أَمِيْرُ الدُّرَعِيّةِ، وَإِلَيْهِ
نُسِبَ المُلُوْكُ السُّعُوْدِيُّوْنَ بَعْدَهُ، وَهُمْ الَّذِيْنَ مَلَكُوْا الحِجَازَ
اليَوْمَ، وَهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ رِجَالٌ
يَنْصُرُوْنَ مَذْهَبَهُ وَيَدْعُوْنَ النَّاسَ إِلَيْهِ وَيَزِيْدُوْنَ عَلَيْهِ
أُمُوْرًا هِيَ مُخَالِفَةٌ لِمَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ حَتَّى
اسْتَطَارَتْ شَرَرَةٌ مِنْ ذَلِكَ المَذْهَبِ إِلَى بِلاَدِ إِنْدُوْنِيْسِيَا.
فَلَمْ يَلْبَثْ أَنٍ انْتَشَرَ فِيْهَا وَلاَ
يَزَالُ أَهْلُهُ يُخَاصِمُوْنَ العُلَمَاءَ الكِرَامَ، وَيَسْتَمِيْلُوْنَ الطَّغَامَ،
وَيُغْرُوْنَ السُّفَهَاءَ، وَيَسُبُّوْنَ السَّلَفَ وَالعُلَمَاءَ. وَلَا يَزَالُوْنَ
يَفْعَلُوْنَ ذَلِكَ فِيْ القُرَى وَالبِلاَدِ حَتَّى يَعُمَّ الضَّرَرُ وَالفَسَادُ.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَفِيْ هَذَا القَدْرِ كِفَايَةٌ. وَاللهُ
وَلِيُّ التَّوْفِيْقِ وَالهِدَايَةِ.
تَمَّتْ الرِّسَالَةُ بِعَوْنِ المُنْفَرِدِ
بِالجَلاَلَةِ فِيْ يَوْمِ الإِثْنَيْنِ المُبَارَكِ حَادِيَ عَشَرَ جُمَادَى الثَّانِيَةِ
سَنَةَ 1381 مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ. عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلاَةِ
وَالسَّلاَمِ. غَفَرَ اللهُ لِمُؤَلِّفِهَا وَلِوَالِدَيْهِ وَلِجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ
آمِيْنَ.
.
بكسر الفاء جمع فرقة بكسرها. والرعاع بفتح الراء الأحداث الطغام، كذا في القاموس.
والطغام بفتح الطاء الدنئ الذى يخدم بطنه.